الخميس، 22 مايو 2014

فضل العبادة زمن الفتنة عمر الحاج مسعود



فضل العبادة زمن الفتنة

عمر الحاج مسعود




تمُرُّ بالأمَّةِ الإسلاميَّةِ أحوالٌ عصيبة، وتعصِف بها رياحٌ عاتية، وتحيط بها فتنٌ مدْلهمَّة، في ظلِّ النِّظامِ العالميِّ الجديدِ والمكر اليهودي والصَّليبي الكُبَّار والهُتاف بالأَرْبِعة العربيَّة المُبتدَعة، والمقصودُ من ذلك كلِّه: زعزعةُ عقيدةِ الأمَّة وأخلاقِها وأمنها، وبثُّ الشُّبه حول كتاب ربِّها تعالى وسنةِ نبيِّها صلى الله عليه وسلم، وإحداثُ الصُّدوعِ في البلدِ الواحِدِ وتفتيتُ قوَّتِه وبثُّ عواملِ الفُرقة بين أبنائه، والدَّعوةُ إلى الخروجِ والعصيان والفوضى تحت غطاء المطالبة بالحقوق والحريَّات ومجابهةِ القمْع والباطل والاستبداد.

وهذا ما تدعو إليه وسائلُ الإعلامِ المختلفةُ من صُحُفٍ وقنوات ومواقعَ إلكترونيَّةٍ، وتحرص عليه وتسخِّر له الألسنةَ الفاجرةَ والأقلامَ الحاقدةَ والأبواقَ النَّاعقةَ.

وإنَّ المسلمَ العاقلَ الفطِنَ ليرفُضُ تلك النِّداءاتِ المشبوهةَ ولا تغرُّه تلك الهُتافاتُ المحمومة، ولا يكترث لفتاوى حُدثاءِ الأسنانِ وسفهاءِ الأحلامِ، وإنَّما يهرُب من الفتن ويفِرُّ إلى ربِّه ويعتصم بحبله ويستمسك بغرز علمائه، ويحرِص على استتبابِ أمْنِ بلدِه، حتَّى يسُدَّ الطَّريقَ أمامَ العابثين بدين الأمَّة ولغتِها وأصالتِها وثوابتِها، الَّذين يصطادون في المياه العَكِرة، ويفسَحون المجال للأعداء والمتربِّصين ليتمكَّنوا من رقاب أبنائها ويتدخَّلوا في شؤونهم، ويخرِّبوا ديارَهم ويستبيحوا حرماتِهم ويَنهَبوا خيراتِهم.

ومن أعظم الأسباب الَّتي تقِي شرَّ الفتنِ وتحفَظُ من سوءِ عاقبتِها البعدُ عنها والاعتصامُ بالله تعالى والفرارُ إليه بعبادته ودعائه واستغفاره، وهذا الَّذي رغَّب فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ونوَّه بفضلِه وأشاد بحُسنِ عاقبتِه.

فعن مَعقِل بن يَسار رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «العِبَادَةُ في الهَرْجِ كهِجْرةٍ إليَّ» رواه مسلم (2948)، وأحمد (20311) ولفظه: «العبادةُ في الفتْنةِ كالهِجرةِ إليَّ»، وله كذلك (20298): «العَمَلُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ».

والعبادة: «هي اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه اللهُ ويرضاه من الأقوالِ والأعمالِ الباطنة والظَّاهرة»(1)، منها إخلاصُ الدِّين لله ودعاؤه والاعتصامُ بحبله، وطلبُ العلمِ النَّافع وسؤالُ أهلِه والرُّجوعُ إليهم، ومنها الصَّلاةُ والصِّيامُ والذِّكرُ، ومنها الصِّدقُ والأمانةُ وفعلُ المعروف وأداءُ الحقوق، وطاعةُ الحاكم المسلم في غير معصية الله.

والهرْج: هو القتلُ والتَّناحر والفتنةُ واختلاطُ أمورِ النَّاس، وفُشُوُّ الفوضى بينهم، روى البخاري (6037) ومسلم (157) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ العِلْمُ وَتَظْهَرُ الفِتَنُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الهَرْجُ» قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: «القَتْلُ».

والهجرةُ: هي الانْتِقالُ مِن بلَدِ الشِّرْكِ إلى بلدِ الإِسلام، ومنها الهجرةُ من مكَّةَ ـ لمَّا كانت دارَ كفر ـ إلى المدينة، وهي من أجلِّ العبادات وأعظمِ القُربات، وبخاصة إليه صلى الله عليه وسلم في حياته.

«كهِجْرَةٍ إِلَيَّ»: قال ابن العربي رحمه الله في «عارِضة الأَحْوَذِيِّ» (9/53): «ووجهُ تمثيلِه بالهجرة أنَّ الزمانَ الأوَّلَ كان النَّاسُ يفِرُّون فيه من دار الكفر وأهلِه إلى دار الإيمان وأهلِه، فإذا وقعت الفتنُ تعيَّن على المرْءِ أن يفرَّ بدينه من الفتنةِ إلى العبادة، ويهْجُرَ أولئك القومَ وتلك الحالةَ، وهو أحدُ أقسامِ الهجرة».

وقد شبَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم العابدَ ربَّه وقتَ الهرْج والفتنة بالمهاجر إليه فرارًا بدينه، وسبب هذا التَّشبيه «أنَّ الناسَ في زمن الفتن يتَّبعون أهواءَهم ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالُهم شبيهًا بحال الجاهليَّة، فإذا انفرد من بينهم مَن يتمسَّك بدينه ويعبد ربَّه ويتَّبِع مراضيَه ويجتنبُ مساخطَه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهليَّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، متَّبعًا لأوامره مجتنِبًا لنواهيه»(2).

ولا يختصُّ هذا بآخِرِ الزَّمان، وإنَّما هو عامٌّ في سائر الأزمنة؛ لأنَّه مربوطٌ بسبب، وهو الفتنةُ والهرْجُ.

إنَّ هذا الحديثَ المبارَكَ يُرسي المنهجَ القويمَ الَّذي ينبغي أن يسلكَه طالبُ النَّجاةِ من شرِّ الفتن، وسأذكر ـ بتوفيق الله ـ أهمَّ فوائدِه، وأنبِّه كذلك على بعضِ مقاصد العبادة في زمن الفتنة، فمن ذلك:

1ـ فضلُ العبادة أيامَ الفتنةِ والهرج، وعِظَمُ ثوابِها ومضاعفةُ أجرِها، حيث إنَّه صلى الله عليه وسلم جعلها مثلَ درجةِ من هاجر إليه، ولا يخفى ما في الهجرة من الأجر والثَّواب، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله وَالله غَفُورٌ رَّحِيم﴾[البقرة:218] وقال: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي الله مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون﴾[النحل:41] وقال:﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[النساء:100].

وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» رواه مسلم (121).

هذا فضلُ الهجرةِ ـ عمومًا ـ الَّتي لا تنقطعُ إلى يومِ القيامة، فكيف بالهجرة إليه صلى الله عليه وسلم خصوصًا؟

وسببُ هذا الأجرِ الكبيرِ والفضلِ العظيمِ أنَّ الفتنَ إذا عمَّت اشتغل النَّاسُ بها وأثَّرت في قلوبهم، وألْهتهم عن عبادةِ ربِّهم، ولم يتفَرَّغْ للعبادة إلاَّ القليلُ، وهم الَّذين يفرُّون إلى الله عز وجل من الفتنِ وأهلِها.

والطَّاعة إذا عُمل بها وظَهرت سهُلت وخفَّت، وإذا تُرِكَت وغُفل عنها شقَّت وثقُلت إلاَّ على الخاشعين؛ لأنَّ النُّفوس تتأسَّى بما تشاهد من أحوال بني وقتِها وتتأثَّر به(3)، ولهذا المعنى قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى للغُرَبَاءِ»، رواه مسلم (145) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه، وجاء تفسيرُ الغرباء عند أبي عمرو الدَّاني في «السُّنن الواردة في الفتن» رقم (288) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(4).

إنَّ الفتنةَ كالكِيرِ يمحِّصُ الجواهرَ ممَّا يشوبُها، وفيها يتبيَّن مَن يعبدُ اللهَ ممَّن يتبع هواه؟

2ـ إشارةٌ إلى فضيلةِ الانفراد بعبادة الله تعالى وذكرِه وقتَ غفلةِ النَّاس واشتغالِهم بالفتنِ والشَّهوات، روى التِّرمذيُّ (3579) والنَّسائي (572) وصحَّحه الألباني عن عمرِو بنِ عبَسَةَ رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِن العَبْدِ في جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ في تلكَ السَّاعَةِ فَكُنْ»، واللَّيلُ ـ وبخاصَّةٍ آخرُه ـ وقتُ غفلةٍ وخلودٍ إلى النَّوْم.

3ـ أنَّ العبادة ـ التي تكون من الضُّعَفاء ـ نُصرةٌ للمظلومين وحمايةٌ للمؤمنين، وجلبٌ للأرزاق والنِّعم، ودفعٌ للفتن والنِّقم، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُم»، رواه البخاري (2896) والنَّسائي (3178) ولفظه: «إِنَّما يَنْصُرُ اللهُ هذه الأمَّةَ بضَعِيفِهَا، بدَعْوَتِهم وصَلاَتِهم وإِخْلاَصِهم».

قال ابن تيمية رحمه الله كما في «جامع المسائل» (2/61): «فإنَّ الله ـ بعباداتِ عبادِه المؤمنين ودُعائِهم ـ يَجلِبُ للنَّاسِ المنافعَ ويَدْفَعُ عنهم المضارَّ... وانتفاعُ الخَلْقِ بدعاءِ المؤمنين وصلاتِهم كانتفاع الحيِّ والميِّتِ بدعاء المؤمنين واستغفارِهم، ونزولِ الغيثِ بدعاءِ المؤمنين واستغفارِهم، والنَّصْرِ على الأعداءِ بدعاء المؤمنين واستغفارهم، وأمثال ذلك ممَّا اتَّفق عليه المؤمنون».

4ـ أنَّ المنفردَ بالطَّاعة من بين أهل المعصية والغفلة قد يدفع الله عنهم بصلاته البلاءَ، وينجِّيهم بدعائه من الفتنة.

وقال غيرُ واحد من المفسِّرين في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾[البقرة:251]، «لولا أن الله يدفع بمن يصلِّي عمَّن لا يُصلِّي، وبمن يتقِّي عمَّن لا يتقِّي لأهلك النَّاسَ بذنوبِهم»(5).

5ـ أنَّ في أيَّام الفتن تَهيجُ النُّفوسُ وتَنزعِجُ القلوبُ وتَطيشُ العُقولُ وتَضطَربُ الأمورُ وتفشو الفوضى ويذهبُ الأمنُ، فلا يصلُح حينئذ إلاَّ العبادةُ والذِّكرُ والاستغفارُ رجاءَ الحصولِ على الثَّباتِ والسَّكينة والطُّمأنينَة، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب﴾[الرعد:28]، روى الطَّبري في «تفسيره» (13/518) عن قتادة رحمه الله قال: «سكنت إلى ذكر الله واستأنست به»، وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾[الأحزاب:41 - 43].

6ـ أنَّ العبادة شِفاء لما تدعو إليه الفتن من الأمراض، فتطهِّر النُّفوس من التَّهوُّر والاندفاع، وتزكِّيها من حبِّ الشُّهرةِ والظُّهور، وتَحميها من الطَّمع والحرصِ على المال والرِّئاسة والزَّعامة والمنافسةِ فيها.

روى مسلم (2965) أنَّ سعدَ بن أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال له ابنهُ عُمَرُ: «أَنَزَلْتَ في إبلِك وغَنَمِك وتركتَ النَّاسَ يتنازعون الملكَ بينَهم؟»، فضرب سعْدٌ في صدرِه، فقال: «اسْكُتْ، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُول: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِىَّ الغَنِىَّ الخَفِيَّ»، والعبدُ الخفيُّ هو المنقطِعُ ـ زمنَ الفتنة ـ لعبادة ربِّه، المشتغلُ بما ينفعُه، الَّذي لا يريد علوًّا في الأرض ولا فسادًا ولا يبغي شُهرةً ولا منصِبًا.

قال ابن بطَّة رحمه الله في «الإبانة الكبرى» (2/600): «فرحم الله عبدًا آثرَ السَّلامةَ ولزِم الاستقامةَ، وسلك الجادَّةَ الواضحةَ والسَّوادَ الأعظمَ، ونَبذ الغلطَ والاستعلاءَ، وترَك الخوضَ والمراءَ والدُّخولَ فيما يضرُّ بدينِه والدُّنيا، ولعلَّه ـ أيضًا ـ مع هذا لا يسلَم من فتنة الشَّهوة والهوى».

7ـ أنَّ العبادة تُستَدْفَع بها المصائبُ والمضارُّ والفتن؛ لأنَّ سببَها الذُّنوبُ، فإذا تاب أصحابُها واستغفروا ربَّهم منها، وفرُّوا إليه بعبادته وذكره والتَّضرُّع إليه، نجَّاهم منها ووقاهم شرَّها، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون* فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾[الأنعام:42 - 43]، وعن أُمِّ سلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: استيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فزِعًا يقول: «سُبْحَانَ اللهِ! مَاذَا أَنْزَلَ الله من الخَزَائِنِ ومَاذَا أُنْزِلَ منَ الفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ ـ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ ـ لِكَيْ يُصَلِّينَ؟، رُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنْيَا عَارِيَةٍ في الآخِرَةِ» رواه البخاري (7069).

قال ابن حجر في «الفتح» (13/23): «وفي الحديث النَّدبُ إلى الدُّعاء والتَّضرعِ عند نزول الفتنة ولا سيَّما في اللَّيل لرجاء وقتِ الإجابةِ، لتُكشَف أو يَسلَمَ الدَّاعي ومَن دعا له، وبالله التَّوفيق».

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرْبِ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ورَبُّ الأَرْضِ ورَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» رواه البخاري (6346) ومسلم (2730) وله في رواية: «كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قال...».

وروى أبو داود (1319) وحسَّنه الألباني عن حذيفة رضي الله عنه قَال: «كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا حزبهُ أمرٌ صلَّى».

فهديُه صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ ـ أي نابَه وألمَّ به واشتدَّ عليه ـ أن يستغيثَ بربِّه، ويفزَعَ إلى مناجاتِه ودعائِه والتَّضرُّعِ إليه، ليرفعَه عنه ويُبدِلَه مكانَه فرَجًا وطمأنينةً وأمْنًا، بخلاف ما عليه النَّاسُ اليومَ ـ مع كثرة الفتن والمصائب ـ من الغفلة عن كلِّ ذلك، واتِّباعِ الشَّهوات وإضاعةِ الصَّلوات، والسَّهَرِ على تتبُّع المواقع ومشاهدة القنوات، والمنافسة في المناصب والوِلايات، وحديثُ معقلٍ رضي الله عنه يتضمَّنُ تشبيهَ هؤلاء بالقاعدين عن الهِجرة التَّاركين لها.

8ـ أنَّ التَّفرُّغَ للعبادة انصرافٌ عن القيل والقال وكثرةِ السُّؤال وإضاعةِ الوقت، وتركٌ لما لا يعني الإنسانَ من الأخبار والعلاقات والمعاملات والمجالس، وإعراضٌ عمَّا لا يُحسِن وعمَّا ليس هو من أهله في دبيرٍ ولا قبيل، ولا له فيه ناقةٌ ولا فصيل.

ولا شكَّ أنَّ هذا أسلمُ للعبد وأحوطُ، وأبعدُ عن مشاركته في إحداثِ الفوضى والاضطرابِ وسفكِ الدِّماءِ ونشْرِ الأكاذيب وإعانة الظَّلَمَةِ وقذفِ الأبرياء.

إنَّ النَّاس أيَّامَ الفتنِ يخوضون فيما لا يُحسنون، ويتأثَّرون بما يشاهدون، ويحلِّلون الأقوال والآراء، وتُثيرهم التَّهيِيجاتُ والأهواء، فتمرضُ قلوبُهم ويفسُدُ تفكيرُهم، ويغفُلون عن عبادة ربِّهم، ويُهمِلون مصالحَهم وبيوتَهم ويفرِّطون في أماناتِهم، ومن اشتغلَ بما لا يَعنيه ضيَّع ما يَعنيه.

وخيرٌ لهم ـ لو كانوا يعقلون ـ الاشتغالُ بالعبادة والعلم والتَّعليم والفرارُ من جميعِ النِّداءات المحمومةِ والمؤثِّراتِ المهلكةِ والسُّيولِ الجارفة، فهذا هو الاشتغال بما ينفع ويعني، والحرصُ على ما يُثمِرُ ويَبْني، ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ الله وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾[التوبة:109].

والله من وراء القصدِ وهو يهدي السَّبيل، وصلِّ اللَّهمَّ وسلِّمْ وباركْ على نبيِّنا محمَّدٍ الرَّحمةِ الُمهداةِ والمِنَّةِ المُسْداةِ، وعلى آلِه الأبرار وصحبِه الأخيار، وعلى التَّابعين لهم بإحسان إلى يوم القرار.




-------------------------------------

(1)«مجموع الفتاوى» (10/149).

(2) قاله ابن رجب في «لطائف المعارف» (ص 132).


(3) انظر «لطائف المعارف» (ص 132).


(4) انظر «الصَّحيحة» للألباني (1273).


(5) انظر «المحرَّر الوجيز» (1/338).

السبت، 17 مايو 2014

ذم العجلة بقلم : الشَّيخ توفيق عمروني -حفظه الله تعالى- مدير مجلَّة الإصلاح


 
 
ذم العجلة
بقلم : الشَّيخ توفيق عمروني -حفظه الله تعالى-
مدير مجلَّة الإصلاح



بسم الله الرحمن الرحيم


إنَّ من الصِّفات الذَّميمة المعيبة ، العجلة ، قال الله سُبحانه : {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [سورة الأنبياء] ، وقال : {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [سورة الإسراء] ، أي : خُلق عجولاً يُبَادر الأُمور ، ويستَعجل حصولَها قبلَ أوانِها ، ويطلبُ أخذَ الأشياء قبلَ وقتها
والعَجُول كثيرُ الخَطأ ، قليل التَّثبُّت والتَّدبُّر ، ولا يقدِّر للأمور عواقبَها ، وهو ما يدفعُه إلى وضع الأشياء في غير مواضِعها ، فلا يجني مِن تعجُّله سوى الحرمان والفَوت ، فيجلب على نفسه أنواعًا منَ الشُّرور ، ويحرمها أصنافًا من الخَير فصدقَ من كنَّى العَجلة بأمِّ النَّدامة ، لأنَّه قلَّ من استَعجل إلاَّ ندمَ ، وما سَلِمَ ، وآلَت أمورُه إلى فَرط وشَطَط .
فلا تقُل ولا تكتُب قبلَ أن تعلَم ، ولا تُجب قبلَ أن تفهَم ، ولا تعزمَ قَبل أن تُفكِّر ، ولا تقطع قبلَ أن تقدِّر ، ولا تحمد قبلَ أن تجرِّب ، ولا تُذع شيئًا قبلَ أن تتثَّبت ، فالحليمُ المتأنِّي لا تُثيره بداياتُ الأمور ، ولا يستفزُّه أهْلُ الطَّيْشِ والخفَّةِ ، ولا يستَخفُّهُ أهلُ التَّشويش والإثارة منَ الَّذين لا يَعْلَمُونَ ، ولا يهيِّجه أهلُ العَواطف والحماسَة ، بل يملكُ نفسَه عند دوَاعي الغَضب والسَّخط ، وعواطفُه منقادةٌ للشَّرع ، جاريةٌ على مقتضَى الحكمَة والعَقل .
وإذا كانَ الاستعجَالُ قبيحًا ، فهو في المنتَسِب إلى العلم والدَّعوة أقبح ، فحريٌّ به ألاَّ يتعجَّل في الفتوى والتَّصدُّر ، ولا في حرق مراحل التَّعلُّم والتَّدرُّج ، ففي "شعب الإيمان" (1803) عن الإمام مَالك رحمه الله أنَّه عَابَ يومًا العَجَلَةَ في الأمُور ، ثُمَّ قالَ : " قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما البَقَرَةَ في ثَمَانِ سنِينَ " ، والله تعالى رفيقٌ يحبُّ الرِّفق والتَّأنِّي في الأعمال والأمور ، والمتَّئد من النَّاس محمودُ العاقبة مخطئًا ومصيبًا قال صلَّى الله عليه وسلَّم : " التَّأنِّي منَ الله ، والعَجَلَةُ منَ الشَّيطَانِ " .
والرَّشيد من النَّاس هو مَن قَدَّ منَ العَجلة معنًى حميدًا ،وهو المبادر إلى الخيرات ، والمسارعَة إلى المرضيات ، ومعناه انتهاز الفُرص في وقتها ، قال تعالى عن موسى عليه السلام : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [سورة طه] ، فرضَى الرَّبِّ في العَجلة إلى أوامره ، وبهذا احتجُّوا على أنَّ الصَّلاةَ في أوَّل الوقت أَفضَل .
فليسَ منَ التَّأنِّي تضييع الفُرص وتفويتها ، بل هو تهاونٌ وتماوتٌ ، لأنَّ الكسَلَ قرينُ الفَوْت والإضاعة ، فلابد إذًا من سلوك الحليم الواثق الَّذي يصدرُ عن علم وبصيرة ، وحزم وعزيمة ، ليكونَ على طريق الرُّشد والثَّبات ، مفرقًا بين العجلة والمبادرة .
وتأكَّد أنَّ العَجلَةَ لا تقدِّم نصرًا آتيًا ، والأناة لا تُؤخِّره ، وإن الله قَد جعل لكلِّ شيء قدرًا ، وقد أحسن مَن قال :
لـــكلٍّ شـــيءٍ في الحياة وقتُهُ *** وغايةُ الــمستَعجلين فوتُه!



مجلَّة الإصلاح السنة الثَّامنة ،العدد الأربعون رجب/شعبان 1435هــ الموافق لــ : ماي/جوان 2014م

الاثنين، 12 مايو 2014

فضل العبادة زمن الفتنة لفضيلة الشيخ عمر الحاج مسعود حفظه الله






فضل العبادة زمن الفتنة



الكلمة الشهرية لموقع راية الإصلاح

شهر رجب 1435 - ماي 2014

لفضيلة الشيخ عمر الحاج مسعود حفظه الله


تمُرُّ بالأمَّةِ الإسلاميَّةِ أحوالٌ عصيبة، وتعصِف بها رياحٌ عاتية، وتحيط بها فتنٌ مدْلهمَّة، في ظلِّ النِّظامِ العالميِّ الجديدِ والمكر اليهودي والصَّليبي الكُبَّار والهُتاف بالأَرْبِعة العربيَّة المُبتدَعة، والمقصودُ من ذلك كلِّه: زعزعةُ عقيدةِ الأمَّة وأخلاقِها وأمنها، وبثُّ الشُّبه حول كتاب ربِّها تعالى وسنةِ نبيِّها صلى الله عليه وسلم، وإحداثُ الصُّدوعِ في البلدِ الواحِدِ وتفتيتُ قوَّتِه وبثُّ عواملِ الفُرقة بين أبنائه، والدَّعوةُ إلى الخروجِ والعصيان والفوضى تحت غطاء المطالبة بالحقوق والحريَّات ومجابهةِ القمْع والباطل والاستبداد.
وهذا ما تدعو إليه وسائلُ الإعلامِ المختلفةُ من صُحُفٍ وقنوات ومواقعَ إلكترونيَّةٍ، وتحرص عليه وتسخِّر له الألسنةَ الفاجرةَ والأقلامَ الحاقدةَ والأبواقَ النَّاعقةَ.
وإنَّ المسلمَ العاقلَ الفطِنَ ليرفُضُ تلك النِّداءاتِ المشبوهةَ ولا تغرُّه تلك الهُتافاتُ المحمومة، ولا يكترث لفتاوى حُدثاءِ الأسنانِ وسفهاءِ الأحلامِ، وإنَّما يهرُب من الفتن ويفِرُّ إلى ربِّه ويعتصم بحبله ويستمسك بغرز علمائه، ويحرِص على استتبابِ أمْنِ بلدِه، حتَّى يسُدَّ الطَّريقَ أمامَ العابثين بدين الأمَّة ولغتِها وأصالتِها وثوابتِها، الَّذين يصطادون في المياه العَكِرة، ويفسَحون المجال للأعداء والمتربِّصين ليتمكَّنوا من رقاب أبنائها ويتدخَّلوا في شؤونهم، ويخرِّبوا ديارَهم ويستبيحوا حرماتِهم ويَنهَبوا خيراتِهم.
ومن أعظم الأسباب الَّتي تقِي شرَّ الفتنِ وتحفَظُ من سوءِ عاقبتِها البعدُ عنها والاعتصامُ بالله تعالى والفرارُ إليه بعبادته ودعائه واستغفاره، وهذا الَّذي رغَّب فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ونوَّه بفضلِه وأشاد بحُسنِ عاقبتِه.
فعن مَعقِل بن يَسار رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «العِبَادَةُ في الهَرْجِ كهِجْرةٍ إليَّ» رواه مسلم (2948)، وأحمد (20311) ولفظه: «العبادةُ في الفتْنةِ كالهِجرةِ إليَّ»، وله كذلك (20298): «العَمَلُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ».
والعبادة: «هي اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه اللهُ ويرضاه من الأقوالِ والأعمالِ الباطنة والظَّاهرة»(1)، منها إخلاصُ الدِّين لله ودعاؤه والاعتصامُ بحبله، وطلبُ العلمِ النَّافع وسؤالُ أهلِه والرُّجوعُ إليهم، ومنها الصَّلاةُ والصِّيامُ والذِّكرُ، ومنها الصِّدقُ والأمانةُ وفعلُ المعروف وأداءُ الحقوق، وطاعةُ الحاكم المسلم في غير معصية الله.
والهرْج: هو القتلُ والتَّناحر والفتنةُ واختلاطُ أمورِ النَّاس، وفُشُوُّ الفوضى بينهم، روى البخاري (6037) ومسلم (157) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ العِلْمُ وَتَظْهَرُ الفِتَنُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الهَرْجُ» قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: «القَتْلُ».
والهجرةُ: هي الانْتِقالُ مِن بلَدِ الشِّرْكِ إلى بلدِ الإِسلام، ومنها الهجرةُ من مكَّةَ ـ لمَّا كانت دارَ كفر ـ إلى المدينة، وهي من أجلِّ العبادات وأعظمِ القُربات، وبخاصة إليه صلى الله عليه وسلم في حياته.
«كهِجْرَةٍ إِلَيَّ»: قال ابن العربي رحمه الله في «عارِضة الأَحْوَذِيِّ» (9/53): «ووجهُ تمثيلِه بالهجرة أنَّ الزمانَ الأوَّلَ كان النَّاسُ يفِرُّون فيه من دار الكفر وأهلِه إلى دار الإيمان وأهلِه، فإذا وقعت الفتنُ تعيَّن على المرْءِ أن يفرَّ بدينه من الفتنةِ إلى العبادة، ويهْجُرَ أولئك القومَ وتلك الحالةَ، وهو أحدُ أقسامِ الهجرة».
وقد شبَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم العابدَ ربَّه وقتَ الهرْج والفتنة بالمهاجر إليه فرارًا بدينه، وسبب هذا التَّشبيه «أنَّ الناسَ في زمن الفتن يتَّبعون أهواءَهم ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالُهم شبيهًا بحال الجاهليَّة، فإذا انفرد من بينهم مَن يتمسَّك بدينه ويعبد ربَّه ويتَّبِع مراضيَه ويجتنبُ مساخطَه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهليَّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، متَّبعًا لأوامره مجتنِبًا لنواهيه»(2).
ولا يختصُّ هذا بآخِرِ الزَّمان، وإنَّما هو عامٌّ في سائر الأزمنة؛ لأنَّه مربوطٌ بسبب، وهو الفتنةُ والهرْجُ.
إنَّ هذا الحديثَ المبارَكَ يُرسي المنهجَ القويمَ الَّذي ينبغي أن يسلكَه طالبُ النَّجاةِ من شرِّ الفتن، وسأذكر ـ بتوفيق الله ـ أهمَّ فوائدِه، وأنبِّه كذلك على بعضِ مقاصد العبادة في زمن الفتنة، فمن ذلك:
1ـ فضلُ العبادة أيامَ الفتنةِ والهرج، وعِظَمُ ثوابِها ومضاعفةُ أجرِها، حيث إنَّه صلى الله عليه وسلم جعلها مثلَ درجةِ من هاجر إليه، ولا يخفى ما في الهجرة من الأجر والثَّواب، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله وَالله غَفُورٌ رَّحِيم﴾[البقرة:218] وقال: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي الله مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون﴾[النحل:41] وقال:﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[النساء:100].
وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» رواه مسلم (121).
هذا فضلُ الهجرةِ ـ عمومًا ـ الَّتي لا تنقطعُ إلى يومِ القيامة، فكيف بالهجرة إليه صلى الله عليه وسلم خصوصًا؟
وسببُ هذا الأجرِ الكبيرِ والفضلِ العظيمِ أنَّ الفتنَ إذا عمَّت اشتغل النَّاسُ بها وأثَّرت في قلوبهم، وألْهتهم عن عبادةِ ربِّهم، ولم يتفَرَّغْ للعبادة إلاَّ القليلُ، وهم الَّذين يفرُّون إلى الله عز وجل من الفتنِ وأهلِها.
والطَّاعة إذا عُمل بها وظَهرت سهُلت وخفَّت، وإذا تُرِكَت وغُفل عنها شقَّت وثقُلت إلاَّ على الخاشعين؛ لأنَّ النُّفوس تتأسَّى بما تشاهد من أحوال بني وقتِها وتتأثَّر به(3)، ولهذا المعنى قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى للغُرَبَاءِ»، رواه مسلم (145) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه، وجاء تفسيرُ الغرباء عند أبي عمرو الدَّاني في «السُّنن الواردة في الفتن» رقم (288) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(4).
إنَّ الفتنةَ كالكِيرِ يمحِّصُ الجواهرَ ممَّا يشوبُها، وفيها يتبيَّن مَن يعبدُ اللهَ ممَّن يتبع هواه؟
2ـ إشارةٌ إلى فضيلةِ الانفراد بعبادة الله تعالى وذكرِه وقتَ غفلةِ النَّاس واشتغالِهم بالفتنِ والشَّهوات، روى التِّرمذيُّ (3579) والنَّسائي (572) وصحَّحه الألباني عن عمرِو بنِ عبَسَةَ رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِن العَبْدِ في جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ في تلكَ السَّاعَةِ فَكُنْ»، واللَّيلُ ـ وبخاصَّةٍ آخرُه ـ وقتُ غفلةٍ وخلودٍ إلى النَّوْم.
3ـ أنَّ العبادة ـ التي تكون من الضُّعَفاء ـ نُصرةٌ للمظلومين وحمايةٌ للمؤمنين، وجلبٌ للأرزاق والنِّعم، ودفعٌ للفتن والنِّقم، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُم»، رواه البخاري (2896) والنَّسائي (3178) ولفظه: «إِنَّما يَنْصُرُ اللهُ هذه الأمَّةَ بضَعِيفِهَا، بدَعْوَتِهم وصَلاَتِهم وإِخْلاَصِهم».
قال ابن تيمية رحمه الله كما في «جامع المسائل» (2/61): «فإنَّ الله ـ بعباداتِ عبادِه المؤمنين ودُعائِهم ـ يَجلِبُ للنَّاسِ المنافعَ ويَدْفَعُ عنهم المضارَّ... وانتفاعُ الخَلْقِ بدعاءِ المؤمنين وصلاتِهم كانتفاع الحيِّ والميِّتِ بدعاء المؤمنين واستغفارِهم، ونزولِ الغيثِ بدعاءِ المؤمنين واستغفارِهم، والنَّصْرِ على الأعداءِ بدعاء المؤمنين واستغفارهم، وأمثال ذلك ممَّا اتَّفق عليه المؤمنون».
4ـ أنَّ المنفردَ بالطَّاعة من بين أهل المعصية والغفلة قد يدفع الله عنهم بصلاته البلاءَ، وينجِّيهم بدعائه من الفتنة.
وقال غيرُ واحد من المفسِّرين في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾[البقرة:251]، «لولا أن الله يدفع بمن يصلِّي عمَّن لا يُصلِّي، وبمن يتقِّي عمَّن لا يتقِّي لأهلك النَّاسَ بذنوبِهم»(5).
5ـ أنَّ في أيَّام الفتن تَهيجُ النُّفوسُ وتَنزعِجُ القلوبُ وتَطيشُ العُقولُ وتَضطَربُ الأمورُ وتفشو الفوضى ويذهبُ الأمنُ، فلا يصلُح حينئذ إلاَّ العبادةُ والذِّكرُ والاستغفارُ رجاءَ الحصولِ على الثَّباتِ والسَّكينة والطُّمأنينَة، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب﴾[الرعد:28]، روى الطَّبري في «تفسيره» (13/518) عن قتادة رحمه الله قال: «سكنت إلى ذكر الله واستأنست به»، وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾[الأحزاب:41 - 43].
6ـ أنَّ العبادة شِفاء لما تدعو إليه الفتن من الأمراض، فتطهِّر النُّفوس من التَّهوُّر والاندفاع، وتزكِّيها من حبِّ الشُّهرةِ والظُّهور، وتَحميها من الطَّمع والحرصِ على المال والرِّئاسة والزَّعامة والمنافسةِ فيها.
روى مسلم (2965) أنَّ سعدَ بن أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال له ابنهُ عُمَرُ: «أَنَزَلْتَ في إبلِك وغَنَمِك وتركتَ النَّاسَ يتنازعون الملكَ بينَهم؟»، فضرب سعْدٌ في صدرِه، فقال: «اسْكُتْ، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُول: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِىَّ الغَنِىَّ الخَفِيَّ»، والعبدُ الخفيُّ هو المنقطِعُ ـ زمنَ الفتنة ـ لعبادة ربِّه، المشتغلُ بما ينفعُه، الَّذي لا يريد علوًّا في الأرض ولا فسادًا ولا يبغي شُهرةً ولا منصِبًا.
قال ابن بطَّة رحمه الله في «الإبانة الكبرى» (2/600): «فرحم الله عبدًا آثرَ السَّلامةَ ولزِم الاستقامةَ، وسلك الجادَّةَ الواضحةَ والسَّوادَ الأعظمَ، ونَبذ الغلطَ والاستعلاءَ، وترَك الخوضَ والمراءَ والدُّخولَ فيما يضرُّ بدينِه والدُّنيا، ولعلَّه ـ أيضًا ـ مع هذا لا يسلَم من فتنة الشَّهوة والهوى».
7ـ أنَّ العبادة تُستَدْفَع بها المصائبُ والمضارُّ والفتن؛ لأنَّ سببَها الذُّنوبُ، فإذا تاب أصحابُها واستغفروا ربَّهم منها، وفرُّوا إليه بعبادته وذكره والتَّضرُّع إليه، نجَّاهم منها ووقاهم شرَّها، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون* فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾[الأنعام:42 - 43]، وعن أُمِّ سلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: استيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فزِعًا يقول: «سُبْحَانَ اللهِ! مَاذَا أَنْزَلَ الله من الخَزَائِنِ ومَاذَا أُنْزِلَ منَ الفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ ـ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ ـ لِكَيْ يُصَلِّينَ؟، رُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنْيَا عَارِيَةٍ في الآخِرَةِ» رواه البخاري (7069).
قال ابن حجر في «الفتح» (13/23): «وفي الحديث النَّدبُ إلى الدُّعاء والتَّضرعِ عند نزول الفتنة ولا سيَّما في اللَّيل لرجاء وقتِ الإجابةِ، لتُكشَف أو يَسلَمَ الدَّاعي ومَن دعا له، وبالله التَّوفيق».
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرْبِ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ورَبُّ الأَرْضِ ورَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» رواه البخاري (6346) ومسلم (2730) وله في رواية: «كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قال...».
وروى أبو داود (1319) وحسَّنه الألباني عن حذيفة رضي الله عنه قَال: «كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا حزبهُ أمرٌ صلَّى».
فهديُه صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ ـ أي نابَه وألمَّ به واشتدَّ عليه ـ أن يستغيثَ بربِّه، ويفزَعَ إلى مناجاتِه ودعائِه والتَّضرُّعِ إليه، ليرفعَه عنه ويُبدِلَه مكانَه فرَجًا وطمأنينةً وأمْنًا، بخلاف ما عليه النَّاسُ اليومَ ـ مع كثرة الفتن والمصائب ـ من الغفلة عن كلِّ ذلك، واتِّباعِ الشَّهوات وإضاعةِ الصَّلوات، والسَّهَرِ على تتبُّع المواقع ومشاهدة القنوات، والمنافسة في المناصب والوِلايات، وحديثُ معقلٍ رضي الله عنه يتضمَّنُ تشبيهَ هؤلاء بالقاعدين عن الهِجرة التَّاركين لها.
8ـ أنَّ التَّفرُّغَ للعبادة انصرافٌ عن القيل والقال وكثرةِ السُّؤال وإضاعةِ الوقت، وتركٌ لما لا يعني الإنسانَ من الأخبار والعلاقات والمعاملات والمجالس، وإعراضٌ عمَّا لا يُحسِن وعمَّا ليس هو من أهله في دبيرٍ ولا قبيل، ولا له فيه ناقةٌ ولا فصيل.
ولا شكَّ أنَّ هذا أسلمُ للعبد وأحوطُ، وأبعدُ عن مشاركته في إحداثِ الفوضى والاضطرابِ وسفكِ الدِّماءِ ونشْرِ الأكاذيب وإعانة الظَّلَمَةِ وقذفِ الأبرياء.
إنَّ النَّاس أيَّامَ الفتنِ يخوضون فيما لا يُحسنون، ويتأثَّرون بما يشاهدون، ويحلِّلون الأقوال والآراء، وتُثيرهم التَّهيِيجاتُ والأهواء، فتمرضُ قلوبُهم ويفسُدُ تفكيرُهم، ويغفُلون عن عبادة ربِّهم، ويُهمِلون مصالحَهم وبيوتَهم ويفرِّطون في أماناتِهم، ومن اشتغلَ بما لا يَعنيه ضيَّع ما يَعنيه.
وخيرٌ لهم ـ لو كانوا يعقلون ـ الاشتغالُ بالعبادة والعلم والتَّعليم والفرارُ من جميعِ النِّداءات المحمومةِ والمؤثِّراتِ المهلكةِ والسُّيولِ الجارفة، فهذا هو الاشتغال بما ينفع ويعني، والحرصُ على ما يُثمِرُ ويَبْني، ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ الله وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾[التوبة:109].
والله من وراء القصدِ وهو يهدي السَّبيل، وصلِّ اللَّهمَّ وسلِّمْ وباركْ على نبيِّنا محمَّدٍ الرَّحمةِ الُمهداةِ والمِنَّةِ المُسْداةِ، وعلى آلِه الأبرار وصحبِه الأخيار، وعلى التَّابعين لهم بإحسان إلى يوم القرار.

-------------------------------------

(1)«مجموع الفتاوى» (10/149).
(2) قاله ابن رجب في «لطائف المعارف» (ص 132).
(3) انظر «لطائف المعارف» (ص 132).
(4) انظر «الصَّحيحة» للألباني (1273).
(5) انظر «المحرَّر الوجيز» (1/338).

الأحد، 11 مايو 2014

الجمع بين حديثين في صفة اليدين لله تعالى



الجمع بين حديثين في صفة اليدين لله تعالى

س : ما موقفنا من حديث ابن عمر موقوفا عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الله، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ (1) » وكيف يجمع بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «إن كلتا يديه يمين (2) » ؟

ج : كلها أحاديث صحيحة عند علماء السنة، وحديث ابن عمر مرفوع صحيح، وليس موقوفا وليس بينها اختلاف بحمد الله. فالله سبحانه توصف يداه باليمين والشمال من حيث الاسم، كما في حديث ابن عمر وكلتاهما يمين مباركة من حيث الشرف والفضل، كما في الأحاديث الصحيحة الأخرى.
وكما دل على ذلك قوله تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: «يمين الله ملآى لا تغيضها نفقة (4) » الحديث، واليمين ضدها الشمال بنص الحديث.
والمقصود من الآيات والأحاديث بيان أن الله سبحانه وتعالى له يمين وشمال من جهة الاسم، أما من جهة الفضل فكلتاهما يمين مباركة. ليس فيهما نقص بوجه من الوجوه، بل له سبحانه الكمال المطلق، في كل شيء بإجماع أهل السنة والجماعة، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، كما قال الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (5)
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7413) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2788) ، سنن ابن ماجه الزهد (4275) ، مسند أحمد بن حنبل (2/88) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1827) ، سنن النسائي آداب القضاة (5379) ، مسند أحمد بن حنبل (2/160) .
(3) سورة الزمر الآية 67
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4684) ، صحيح مسلم الزكاة (993) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3045) ، سنن ابن ماجه المقدمة (197) ، مسند أحمد بن حنبل (2/313) .
(5) سورة المائدة الآية 64


( 25 ـ 126 / 127 )
الكتاب: مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله
المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى: 1420هـ) .